ومن الواضح النظرة السياسية السابقة على قيام الملكية في إسرائيل
نظرة رافضة لنظام الملكية، فقد سبق أن رفض القاضي جدعون أن يعين نفسه ملكا أو أن
يعين عليهم أحد أبنائه ملكا: "وقال رجال إسرائيل لجدعون تسلط علينا أنت وابنك وابن
ابنك لأنك قد خلصتنا من يد مديان ، فقال لهم جدعون لا أتسلط أنا عليكم ولا يتسلط
ابني عليكم، الرب يتسلط عليكم".
ويشير رد صموئيل أيضا إلى رفض فكرة الملكية والحكم الملكي الوراثي ،
ويستند هذا الرفض إلى الصفة الدينية الثيوقراطية التي كان عليها اتحاد القبائل
الإسرائيلية في عصر القضاة، والذي ينتهي بصموئيل الذي يعتبر آخر القضاة في تاريخ
بني إسرائيل، فقد كان أساس هذا الاتحاد دينيا وليس سياسيا لأن القبائل التي أعلنت
الولاء ليهوه كونت اتحادا دينيا حول الإله المحارب وحول اعتقاد عام مرتبط بشريعة
مقدسة وبتأثير من الحضارة الكنعانية بدأت عملية توطين عبادة يهوه وتعديلها في اتجاه
يؤكد تأثير الدين الكنعاني الزراعي ، فبعد المكاسب التي حققتها القبائل الإسرائيلية
على حساب الكنعانيين والتي نتج عنها أن اتباع يهوه أصبحوا أصحاب أرض انتزعوها من
أصحابها الكنعانيين والفلسطيين وغيرهم.. أصبحت الحاجة ماسة إلى تغيير النظام
السياسي بهدف الدفاع عن المكاسب الاقتصادية فبدأت في الظهور فكرة الملكية تقليدا
للكنعانيين واستجابة لحاجة اقتصادية ويرفض جدعون وصموئيل هذا الاتجاه الجديد لما
فيه من رفض مباشر لحكم يهوه وملكه الاتجاه إلى نظام الملك السائد بين الشعوب الأخرى
في الشرق الأدنى، وقد أدت الظروف والضغوط المواتية إلى حدوث هذا التحول في تاريخ
الإسرائيليين من اتحاد القبائل المرتبط بعبادة يهوه إلى النظام الملكي المدني الذي
يسعى إلى المحافظة مع المكاسب الإقليمية والاقتصادية التي تحققت.
ومن أهم هذه الضغوط استقرار الفلسطينيين على الساحل الفلسطيني
وتقدمهم إلى المناطق الداخلية وإيقاعهم الهزيمة بالإسرائيليين مهددين الاتحاد
القبلي: "غدا في مثل الآن أرسل إليك رجلا من ارض بنيامين فامسحه رئيسا لشعب إسرائيل
فيخلص شعبي من يد الفلسطينيين"، وقد استولى الفلسطينيون أيضا على التابوت ودمروا
معبد شيلوه ، وأصبحت الحاجة ملحة إلى تعيين ملك يحكم باسم يهوه ويقود إسرائيل في
حروبها: "فأبى الشعب أن يسمعوا بصوت صموئيل وقالوا لا بل يكون علينا ملك فنكون نحن
أيضا مثل سائر الشعوب ويقضي لنا ملكنا ويخرج أمامنا ويحارب حروبنا"، فيستجيب صموئيل
مضطرا وغير مقتنع ومحاولا في نفس الوقت عدم السماح للملك المعين شاؤول بالجمع بين
الأمور الدنيوية والدينية حيث احتفظ صموئيل بإدارة شؤون الدين.
وفي إحدى فقرات صموئيل الأول إشارة إلى ندم اليهود على تعيين شاؤول
ملكا، ويشتم منه ندم إلهي على نظام الملكية ذاته: "والرب ندم لأنه ملك شاؤول على
إسرائيل" وفي موضع آخر: "وكان كلام الرب إلى صموئيل قائلا: ندمت على أني قد جعلت
شاؤول ملكا لأنه رجع من ورائي ولم يقم كلامي"، وكذلك: "لنك رفضت كلام الرب رفضك من
الملك... لأنك رفضت كلام الرب فرفضتك الرب من أن تكون ملكا على إسرائيل."
وهكذا تعددت التأثيرات الكنعانية على حياة الإسرائيليين الذين قدموا
إلى أرض كنعان من مصر بعد خروج موسى عليه السلام بهم فقد وقعوا تحت التأثير الديني
والسياسي والحضاري ببيئته الكنعانية، واندمجوا فيها اندماجا تاما، واخذوا عنها
نظامها السياسي، وتحولوا من نظام الحكم القبلي الذي اعتمد على القضاة في إدارة شئون
السلم والحرب إلى نظام الدولة بداية بشاؤول ثم وجود سليمان عليه السلام.