رابعا: مملكة داود
نشأة اللاهوت الأورشليمي
بعد أن اتخذ داود مدينة أورشليم عاصمة له بدأ في الظهور فكر لاهوتي
يربط المدينة بداود ويؤكد على الاختيار الإلهي لداود وأورشليم، أصبحت فيما بعد تشير
إلى أورشليم ذاتها فقد ورد في العهد القديم على لسان سليمان: "مبارك الرب إله
إسرائيل الذي كلم بفمه داود أبي وأكمل بيديه قائلا منذ يوم أخرجت شعبي من أرض مصر
لم أختر مدينة من جميع أسباط إسرائيل لبناء بيت ليكون اسمي هناك ولا اخترت رجلا
يكون رئيس لشعبي إسرائيل، بل اخترت أورشليم ليكون اسمي فيها واخترت داود ليكون على
شعبي إسرائيل".
ويشير هذا النص إلى بداية الفكر اللاهوتي الذي ظهر حول أورشليم
ليحولها بعد استيلاء داود عليها بناء سليمان للهيكل منها إلى المدينة المقدسة
للإسرائيليين، المدينة التي يسكنها الرب في البيت الذي بني له باسمه والذي كان في
نفس الوقت هو بيت الملك حتى يصطبغ الحكم بالصبغة الدينية، ويصبح الملك يحكم باسم
الرب ومن بيته وحتى يجتمع في شخص الملك صفة الملك والكاهن: "وكان لما أكمل سليمان
بناء بيت الرب وبيت الملك"، وفي موضع آخر: "وبعد نهاية عشرين سنة بعدما بنى سليمان
البيتين بيت الرب وبيت الملك"، ويؤكد هذا اللاهوت على الاختيار الإلهي لأورشليم
وعلى مركزية العبادة فيها فهي ليست مجرد عاصمة سياسية لداود وسليمان ولكن شاء
التفكير اللاهوتي المتأخر أن يحولها أيضا إلى المركز الديني الوحيد لبني إسرائيل:
"ولأجل أورشليم التي اخترتها"، وأيضا: "لأنه هكذا قال الرب إله إسرائيل هاأنذا أمزق
المملكة من يد سليمان أعطيك عشرة أسباط ويكون له سبط واحد من أجل عبدي داود ومن أجل
أورشليم المدينة التي اخترتها في كل أسباط إسرائيل.. أورشليم المدينة التي اخترتها
لنفسي لأضع اسمي فيها".
ويلاحظ أن هذا اللاهوت الأورشليمي يتطور في ظل ظروف غريبة وغير
مواتية ولا يتناسب مع طبيعة الأحداث ولكنه التناقض الإسرائيلي الذي جعل الفكر
اليهودي المتأخر الذي صاغ أسفار العهد القديم يبني لاهوت أورشليم في ظل ما سماه
بعصيان داود وسليمان ونكثهما بالعهد والفرائض، وأول علامات التناقض في هذا اللاهوت
الناشئ حول المدينة وحول داود أن الرب الذي اختار أورشليم مدينة له واختار داود على
شعبه إسرائيل يمنع داود المختار من بناء بيت الرب: "ودعا داود سليمان ابنه وأوصاه
أن يبني بيتا للرب إله إسرائيل وقال داود لسليمان: يا ابني قد كان في قلبي أن أبني
بيتا لاسم الرب إلهي، فكان إلي كلام الرب قائلا قد سفكت دما كثيرا وعملت حروبا
عظيمة فلا تبني بيتا لاسمي لأنك سفكت دماء كثيرة على الأرض أمامي، هو ذا يولد لك
ابني يكون صاحب راحة وأريحة من جميع أعدائه حواليه لأن اسمه يكون سليمان فأجعل
سلاما وسكينة في إسرائيل في أيامه هو يبني بيتا لاسمي، وهو يكون لي ابنا وأنا له
أبا وأثبت كرسي ملكه على إسرائيل إلى الأبد، الآن يا ابني ليكن الرب معك فتعلم
وتبني بيت الرب إلهك كما تكلم عنك". وهكذا في الوقت الذي يختار فيه الرب داود يمنعه
من بناء بيته لكثرة سفكه للدماء، ولحروبه الكثيرة والوجه الآخر للتناقض أن أورشليم
التي ادعى كتاب العهد القديم اختيارها مدينة للرب مع اختيار داود... نفس هذه
المدينة المختارة يعلن الرب عن رغبته في تدميرها بسبب ذنوب داود وآثامه على حد
تعبير كتاب العهد القديم فيرسل الرب عليها ملاكا ليهلكها: "فجعل الرب وباء في
إسرائيل من الصباح إلى الميعاد فمات من الشعب من دان إلى بئر سبع سبعون ألف رجل،
وبسط الملاك يده على أورشليم ليهلكها فندم الرب عن الشر وقال للملاك المهلك الشعب
كفى، الآن رد يدك.. فكلم داود الرب عندما رأى الملاك الضارب الشعب وقال ها أنا
أخطأت وأنا أذنبت وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا فلتكن يدك علي وعلي بيت أبي..
واستجاب الرب من أجل الأرض فكفت الضربة عن إسرائيل".